الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى الأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ»: وَقَدْ اِحْتَجَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث مَنْ شَذَّ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ: الْخَضِر عَلَيْهِ السَّلَام مَيِّت، وَالْجُمْهُور عَلَى حَيَاته كَمَا سَبَقَ فِي بَاب فَضَائِله، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيث عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَحْر لَا عَلَى الْأَرْض، أَوْ أَنَّهَا عَامّ مَخْصُوص. قَوْله: «فَوَهَلَ النَّاس» بِفَتْحِ الْهَاء أَيْ غَلِطُوا يُقَال: وَهَلَ بِفَتْحِ الْهَاء يَهِلُ بِكَسْرِهَا وَهْلًا كَضَرِبَ يَضْرِب ضَرْبًا أَيْ غَلِطَ، وَذَهَبَ وَهْمه إِلَى خِلَاف الصَّوَاب. وَأَمَّا: «وَهِلْت» بِكَسْرِهَا أَهَلُ بِفَتْحِهَا وَهَلًا كَحَذَرْت أَحْذَر حَذَرًا فَمَعْنَاهُ فَزِعْت، وَالْوَهَل بِالْفَتْحِ الْفَزَع. قَوْله: «يَنْخَرِم ذَلِكَ الْقَرْن» أَيْ يَنْقَطِع وَيَنْقَضِي. 4606- وَمَعْنَى: «نَفْس مَنْفُوسَة» أَيْ مَوْلُودَة، وَفيه اِحْتِرَاز مِنْ الْمَلَائِكَة. 4607- قَوْله: (وَعَنْ عَبْد الرَّحْمَن صَاحِب السِّقَايَة عَنْ جَابِر) هُوَ مَعْطُوف عَلَى قَوْل مُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان: سَمِعْت أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَة، ثُمَّ قَالَ بَعْد تَمَام الْحَدِيث: وَعَنْ عَبْد الرَّحْمَن. فَالْقَائِل وَعَنْ عَبْد الرَّحْمَن هُوَ سُلَيْمَان وَالِد مُعْتَمِر، فَسُلَيْمَان يَرْوِيه بِإِسْنَادِ مُسْلِم إِلَيْهِ عَنْ اِثْنَيْنِ أَبِي نَضْرَة وَعَبْد الرَّحْمَن صَاحِب السِّقَايَة، كِلَاهُمَا عَنْ جَابِر وَاَللَّه أَعْلَم. 4608- سبق شرحه بالباب. 4609- سبق شرحه بالباب. .باب تَحْرِيمِ سَبِّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ حَرَام مِنْ فَوَاحِش الْمُحَرَّمَات، سَوَاء مَنْ لَابَسَ الْفِتَن مِنْهُمْ وَغَيْره؛ لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي تِلْكَ الْحُرُوب، مُتَأَوِّلُونَ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّل فَضَائِل الصَّحَابَة مِنْ هَذَا الشَّرْح. قَالَ الْقَاضِي: وَسَبُّ أَحَدهمْ مِنْ الْمَعَاصِي الْكَبَائِر، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُ يُعَزَّر، وَلَا يُقْتَل. وَقَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة: يُقْتَل. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه» قَالَ أَهْل اللُّغَة: النَّصِيف النِّصْف، وَفيه أَرْبَع لُغَات: نِصْف بِكَسْرِ النُّون، وَنُصْف بِضَمِّهَا، وَنَصْف بِفَتْحِهَا، وَنَصِيف بِزِيَادَةِ الْيَاء، حَكَاهُنَّ الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق عَنْ الْخَطَّابِيِّ، وَمَعْنَاهُ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدكُمْ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا بَلَغَ ثَوَابه فِي ذَلِكَ ثَوَاب نَفَقَة أَحَد أَصْحَابِي مُدًّا، وَلَا نِصْف مُدّ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُؤَيِّد هَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّل بَاب فَضَائِل الصَّحَابَة عَنْ الْجُمْهُور مِنْ تَفْضِيل الصَّحَابَة كُلّهمْ عَلَى جَمِيع مَنْ بَعْدهمْ. وَسَبَب تَفْضِيل نَفَقَتهمْ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْت الضَّرُورَة وَضِيق الْحَال، بِخِلَافِ غَيْرهمْ، وَلِأَنَّ إِنْفَاقهمْ كَانَ فِي نُصْرَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِمَايَته، وَذَلِكَ مَعْدُوم بَعْده، وَكَذَا جِهَادهمْ وَسَائِر طَاعَتهمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْل الْفَتْح وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَم دَرَجَة} الْآيَة، هَذَا كُلّه مَعَ مَا كَانَ فِي أَنْفُسهمْ مِنْ الشَّفَقَة وَالتَّوَدُّد وَالْخُشُوع وَالتَّوَاضُع وَالْإِيثَار وَالْجِهَاد فِي اللَّه حَقَّ جِهَاده، وَفَضِيلَة الصُّحْبَة، وَلَوْ لَحْظَة لَا يُوَازِيهَا عَمَل، وَلَا تُنَال دَرَجَتهَا بِشَيْءٍ، وَالْفَضَائِل لَا تُؤْخَذ بِقِيَاسٍ، ذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء، قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْ أَصْحَاب الْحَدِيث مَنْ يَقُول: هَذِهِ الْفَضِيلَة مُخْتَصَّة بِمَنْ طَالَتْ صُحْبَته، وَقَاتَلَ مَعَهُ، وَأَنْفَقَ وَهَاجَرَ وَنَصَرَ، لَا لِمَنْ رَآهُ مَرَّة كَوُفُودِ الْأَعْرَاب أَوْ صَحِبَهُ آخِرًا بَعْد الْفَتْح، وَبَعْد إِعْزَاز الدِّين مِمَّنْ لَمْ يُوجَد لَهُ هِجْرَة، وَلَا أَثَر فِي الدِّين وَمَنْفَعَة الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَالصَّحِيح هُوَ الْأَوَّل، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. وَاَللَّه أَعْلَم. 4611- سبق شرحه بالباب. .باب مِنْ فَضَائِلِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ اِبْن مَاكُولَا: وَتُقَال: أُوَيْس بْن عَمْرو. قَالُوا: وَكُنْيَته أَبُو عَمْرو قَالَ الْقَائِل: قُتِلَ بِصِفِّينَ، وَهُوَ الْقَرَنِيّ مِنْ بَنِي قَرَن بِفَتْحِ الْقَاف وَالرَّاء، وَهِيَ بَطْن مِنْ مُرَاد، وَهُوَ قَرَن بْن رَدْمَان بْن نَاجِيَة بْن مُرَاد. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: وَمُرَاد اِسْمه جَابِر بْن مَالِك بْن أُدَد بْن صُحْب بْن يَعْرُب بْن زَيْد بْن كَهْلَان بْن سَبَّاد. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنه مِنْ بَطْن مِنْ مُرَاد إِلَيْهِ نُسِبَ هُوَ الصَّوَاب، وَلَا خِلَاف. فِي صِحَاح الْجَوْهَرِيّ أَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى قَرْن الْمَنَازِل الْجَبَل الْمَعْرُوف مِيقَات الْإِحْرَام لِأَهْلِ نَجْد، وَهَذَا غَلَط فَاحِش، وَسَبَقَ هُنَاكَ التَّنْبِيه عَلَيْهِ لِئَلَّا يَغْتَرّ بِهِ. قَوْله: «وَفيهمْ رَجُل يَسْخَر بِأُوَيْسٍ» أَيْ يَحْتَقِرهُ، وَيَسْتَهْزِئ بِهِ، وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يُخْفِي حَاله، وَيَكْتُم السِّرّ الَّذِي بَيْنه وَبَيْن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَظْهَر مِنْهُ شَيْء يَدُلّ لِذَلِكَ، وَهَذِهِ طَرِيق الْعَارِفِينَ وَخَوَاصّ الْأَوْلِيَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «قَالَ لِعُمَر: فَإِنْ اِسْتَطَعْت أَنْ يَسْتَغْفِر لَك فَافْعَلْ» هَذِهِ مَنْقَبَة ظَاهِرَة لِأُوَيْسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَفيه اِسْتِحْبَاب طَلَب الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار مِنْ أَهْل الصَّلَاح، وَإِنْ كَانَ الطَّالِب أَفْضَل مِنْهُمْ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خَيْر التَّابِعِينَ رَجُل يُقَال لَهُ أُوَيْس إِلَى آخِره» هَذَا صَرِيح فِي أَنَّهُ خَيْر التَّابِعِينَ، وَقَدْ يُقَال: قَدْ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْره: أَفْضَل التَّابِعِينَ سَعِيد بْن الْمُسَيَّب، وَالْجَوَاب أَنَّ مُرَادهمْ أَنَّ سَعِيدًا أَفْضَل فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيث وَالْفِقْه وَنَحْوهَا، لَا فِي الْخَيْر عِنْد اللَّه تَعَالَى. وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَة مُعْجِزَة ظَاهِرَة أَيْضًا. 4613- قَوْله: «أَمْدَاد أَهْل الْيَمَن» هُمْ الْجَمَاعَة الْغُزَاة الَّذِينَ يَمُدُّونَ جُيُوش الْإِسْلَام فِي الْغَزْو، وَاحِدهمْ مَدَد. قَوْله: «أَكُون فِي غَبْرَاء النَّاس أَحَبُّ إِلَيَّ» هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَبِإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَة وَبِالْمَدِّ أَيْ ضِعَافهمْ وَصَعَالِيكهمْ وَأَخْلَاطهمْ الَّذِينَ لَا يُؤْبَه لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ إِيثَار الْخُمُول وَكَتْم حَاله. قَوْله: «رَثَّ الْبَيْت» هُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «قَلِيل الْمَتَاع». وَالرَّثَاثَة وَالْبَذَاذَة بِمَعْنًى، وَهُوَ حَقَارَة الْمَتَاع وَضِيق الْعَيْش. وَفِي حَدِيثه فَضْل بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَفَضْل الْعُزْلَة وَإِخْفَاء الْأَحْوَال. .باب وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مِصْرَ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَر فيها الْقِيرَاط، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّة وَرَحِمًا، فَإِذَا رَأَيْت رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فِي مَوْضِع لَبِنَة فَاخْرُجْ مِنْهَا قَالَ: فَمَرَّ بِرَبِيعَة وَعَبْد الرَّحْمَن اِبْنَيْ شُرَحْبِيل بْن حَسَنَة يُنَازِعَانِ. فِي مَوْضِع لَبِنَة، فَخَرَجَ مِنْهَا» وَفِي رِوَايَة: «سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْض يُسَمَّى فيها الْقِيرَاط وَفيها: فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّة وَرَحِمًا أَوْ قَالَ: ذِمَّة وَصِهْرًا» قَالَ الْعُلَمَاء: الْقِيرَاط جُزْء مِنْ أَجْزَاء الدِّينَار وَالدِّرْهَم وَغَيْرهمَا، وَكَانَ أَهْل مِصْر يُكْثِرُونَ مِنْ اِسْتِعْمَاله وَالتَّكَلُّم بِهِ. وَأَمَّا الذِّمَّة فَهِيَ الْحُرْمَة وَالْحَقّ، وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الذِّمَام. وَأَمَّا الرَّحِم فَلِكَوْنِ هَاجَرَ أُمّ إِسْمَاعِيل مِنْهُمْ، وَفيه مُعْجِزَات ظَاهِرَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْهَا إِخْبَاره بِأَنَّ الْأُمَّة تَكُون لَهُمْ قُوَّة وَشَوْكَة بَعْده بِحَيْثُ يَقْهَرُونَ الْعَجَم وَالْجَبَابِرَة، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَفْتَحُونَ مِصْر، وَمِنْهَا تَنَازُع الرَّجُلَيْنِ فِي مَوْضِع اللَّبِنَة، وَوَقَعَ كُلّ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْد. وَمَعْنَى: «يَقْتَتِلَانِ» يَخْتَصِمَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة. 4615- قَوْله: (عَنْ أَبِي بَصْرَة عَنْ أَبِي ذَرّ) هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَة. وَأَمَّا الصِّهْر فَلِكَوْنِ مَارِيَة أُمّ إِبْرَاهِيم مِنْهُمْ. .باب فَضْلِ أَهْلِ عُمَانَ: .باب ذِكْرِ كَذَّابِ ثَقِيفٍ وَمُبِيرِهَا: قَوْله: (عَقَبَة الْمَدِينَة) هِيَ عَقَبَة بِمَكَّة، (وَأَبُو خُبَيْب) بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة كُنْيَة اِبْن الزُّبَيْر، كُنِّيَ بِابْنِهِ خُبَيْب، وَكَانَ أَكْبَر أَوْلَاده، وَلَهُ ثَلَاث كُنًى ذَكَرَهَا الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ وَآخَرُونَ: أَبُو خُبَيْب، وَأَبُو بَكْر، وَأَبُو بُكَيْرٍ. فيه اِسْتِحْبَاب السَّلَام عَلَى الْمَيِّت فِي قَبْره وَغَيْره، تَكْرِير السَّلَام ثَلَاثًا كَمَا كَرَّرَ اِبْن عُمَر. وَفيه الثَّنَاء عَلَى الْمَوْتَى بِجَمِيلِ صِفَاتهمْ الْمَعْرُوفَة. وَفيه مَنْقَبَة لِابْنِ عُمَر لِقَوْلِهِ بِالْحَقِّ فِي الْمَلَأ، وَعَدَم اِكْتِرَاثه بِالْحَجَّاجِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَم أَنَّهُ يَبْلُغهُ مَقَامه عَلَيْهِ، وَقَوْله، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُول الْحَقّ، يَشْهَد لِابْنِ الزُّبَيْر بِمَا يَعْلَمهُ فيه مِنْ الْخَيْر، وَبُطْلَان مَا أَشَاعَ عَنْهُ الْحَجَّاج مِنْ قَوْله: إِنَّهُ عَدُوّ اللَّه، وَظَالِم، وَنَحْوه، فَأَرَادَ اِبْن عُمَر بَرَاءَة اِبْن الزُّبَيْر مِنْ ذَلِكَ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْحَجَّاج، وَأَعْلَم النَّاس بِمَحَاسِنِهِ، وَأَنَّهُ ضِدّ مَا قَالَهُ الْحَجَّاج. وَمَذْهَب أَهْل الْحَقّ أَنَّ اِبْن الزُّبَيْر كَانَ مَظْلُومًا، وَأَنَّ الْحَجَّاج وَرُفْقَته كَانُوا خَوَارِج عَلَيْهِ. قَوْله: (لَقَدْ كُنْت أَنْهَاك عَنْ هَذَا) أَيْ عَنْ الْمُنَازَعَة الطَّوِيلَة. قَوْله فِي وَصْفه: (وَصُولًا لِلرَّحِمِ) قَالَ الْقَاضِي: هُوَ أَصَحّ مَنْ قَوْل بَعْض الْإِخْبَارِيِّينَ، وَوَصَفَهُ بِالْإِمْسَاكِ، وَقَدْ عَدَّهُ صَاحِب كِتَاب الْأَجْوَد فيهمْ، وَهُوَ الْمَعْرُوف مِنْ أَحْوَاله. قَوْله: «وَاَللَّه لَأُمَّة أَنْتَ شَرّهَا أُمَّة خَيْر» هَكَذَا هُوَ فِي كَثِير مِنْ نُسَخِنَا: «لَأُمَّة خَيْر»، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُور رُوَاة صَحِيح مُسْلِم، وَفِي أَكْثَر نُسَخ بِلَادنَا: «لَأُمَّة سُوء»، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة السَّمَرْقَنْدِيّ قَالَ: وَهُوَ خَطَأ وَتَصْحِيف. قَوْله: (ثُمَّ نَفَذَ اِبْن عُمَر) أَيْ اِنْصَرَفَ. قَوْله: (يَسْحَبك بِقُرُونِك) أَيْ يَجُرّك بِضَفَائِر شَعْرك. قَوْله: (أَرُونِي سِبْتَيّ) بِكَسْرِ السِّين الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْمُوَحَّدَة وَتَشْدِيد آخِره، وَهِيَ النَّعْل الَّتِي لَا شَعْر عَلَيْهَا. قَوْله: (ثُمَّ اِنْطَلَقَ يَتَوَذَّف) هُوَ بِالْوَاوِ وَالذَّال الْمُعْجَمَة وَالْفَاء. قَالَ أَبُو عُبَيْد: مَعْنَاهُ يُسْرِع، وَقَالَ أَبُو عُمَر: مَعْنَاهُ يَتَبَخْتَر. قَوْله: (ذَات النِّطَاقَيْنِ) هُوَ بِكَسْرِ النُّون. قَالَ الْعُلَمَاء: النِّطَاق أَنْ تَلْبَس الْمَرْأَة ثَوْبهَا، ثُمَّ تَشُدّ وَسَطهَا بِشَيْءٍ، وَتَرْفَع وَسَط ثَوْبهَا وَتُرْسِلهُ عَلَى الْأَسْفَل، تَفْعَل ذَلِكَ عِنْد مُعَانَاة الْأَشْغَال لِئَلَّا تَعْثِر فِي ذَيْلهَا. قِيلَ: سُمِّيَتْ أَسْمَاء ذَات النِّطَاقَيْنِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُطَارِف نِطَاقًا فَوْق نِطَاق، وَالْأَصَحّ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا شَقَّتْ نِطَاقهَا الْوَاحِد نِصْفَيْنِ، فَجَعَلَتْ أَحَدهمَا نِطَاقًا صَغِيرًا، وَاكْتَفَتْ بِهِ، وَالْآخَر لِسُفْرَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيث هُنَا، وَفِي الْبُخَارِيّ، وَلَفْظ الْبُخَارِيّ أَوْضَح مِنْ لَفْظ مُسْلِم. قَوْلهَا لِلْحَجَّاجِ: (إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيف كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّاب فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِير فَلَا إِخَالُك إِلَّا إِيَّاهُ) أَمَّا (إِخَالُك) فَبِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْرهَا، وَهُوَ أَشْهَر، وَمَعْنَاهُ أَظُنّك. وَالْمُبِير الْمُهْلِك. وَقَوْلهَا فِي الْكَذَّاب: (فَرَأَيْنَاهُ) تَعْنِي بِهِ الْمُخْتَار بْن أَبِي عُبَيْد الثَّقَفِيّ، كَانَ شَدِيد الْكَذِب، وَمِنْ أَقْبَحه اِدَّعَى أَنَّ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيه. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْكَذَّابِ هُنَا الْمُخْتَار بْن أَبِي عُبَيْد، وَبِالْمُبِيرِ الْحَجَّاج بْن يُوسُف. وَاَللَّه أَعْلَم. .باب فَضْلِ فَارِسَ: 4620- قَالَ اِبْن قُتَيْبَة: الرَّاحِلَة النَّجِيبَة الْمُخْتَارَة مِنْ الْإِبِل لِلرُّكُوبِ وَغَيْره، فَهِيَ كَامِلَة الْأَوْصَاف فَإِذَا كَانَتْ فِي إِبِل عُرِفَتْ. قَالَ: وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ النَّاس مُتَسَاوُونَ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فَضْل فِي النَّسَب، بَلْ هُمْ أَشْبَاه كَالْإِبِلِ الْمِائَة. وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ: الرَّاحِلَة عِنْد الْعَرَب الْجَمَل النَّجِيب وَالنَّاقَة النَّجِيبَة. قَالَ: وَالْهَاء فيها لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَال: رَجُل فَهَّامَة وَنَسَّابَة. قَالَ: وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن قُتَيْبَة غَلَط، بَلْ مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الزَّاهِد فِي الدُّنْيَا الْكَامِل فِي الزُّهْد فيها وَالرَّغْبَة فِي الْآخِرَة قَلِيل جِدًّا كَقِلَّةِ الرَّاحِلَة فِي الْإِبِل، هَذَا كَلَام الْأَزْهَرِيّ، وَهُوَ أَجْوَد مِنْ كَلَام اِبْن قُتَيْبَة، وَأَجْوَد مِنْهُمَا قَوْل آخَرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمَرْضِيّ الْأَحْوَال مِنْ النَّاس الْكَامِل الْأَوْصَاف الْحَسَن الْمَنْظَر الْقَوِيّ عَلَى الْأَحْمَال وَالْأَسْفَار. سُمِّيَتْ رَاحِلَة لِأَنَّهَا تَرْحَل أَيْ يُجْعَل عَلَيْهَا الرَّحْل فَهِيَ فَاعِلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة كَعِيشَةٍ رَاضِيَة أَيْ مَرْضِيَّة وَنَظَائِره. .كتاب البر والصلة والآداب: .باب بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِهِ: قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب تَقْدِيم الْأُمّ كَثْرَة تَعَبهَا عَلَيْهِ، وَشَفَقَتهَا، وَخِدْمَتهَا، وَمُعَانَاة الْمَشَاقّ فِي حَمْله، ثُمَّ وَضْعه، ثُمَّ إِرْضَاعه، ثُمَّ تَرْبِيَته وَخِدْمَته وَتَمْرِيضه، وَغَيْر ذَلِكَ. وَنَقَلَ الْحَارِث الْمُحَاسِبِيّ إِجْمَاع الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْأُمّ تُفَضَّل فِي الْبِرّ عَلَى الْأَب، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض خِلَافًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْجُمْهُور بِتَفْضِيلِهَا، وَقَالَ بَعْضهمْ: يَكُون بِرّهمَا سَوَاء. قَالَ: وَنَسَبَ بَعْضهمْ هَذَا إِلَى مَالِك، وَالصَّوَاب الْأَوَّل لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيث فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُور. وَاَللَّه أَعْلَم. قَالَ الْقَاضِي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأُمّ وَالْأَب آكَد حُرْمَة فِي الْبِرّ مِمَّنْ سِوَاهُمَا. قَالَ: وَتَرَدَّدَ بَعْضهمْ بَيْن الْأَجْدَاد وَالْإِخْوَة لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ أَدْنَاك أَدْنَاك قَالَ أَصْحَابنَا: يُسْتَحَبّ أَنْ تُقَدَّم فِي الْبِرّ الْأُمّ، ثُمَّ الْأَب، ثُمَّ الْأَوْلَاد، ثُمَّ الْأَجْدَاد وَالْجَدَّات، ثُمَّ الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات، ثُمَّ سَائِر الْمَحَارِم مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام كَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّات، وَالْأَخْوَال وَالْخَالَات، وَيُقَدَّم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب، وَيُقَدَّم مَنْ أَدْلَى بِأَبَوَيْنِ عَلَى مَنْ أَدْلَى بِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ بِذِي الرَّحِم غَيْر الْمَحْرَم كَابْنِ الْعَمّ وَبِنْته، وَأَوْلَاد الْأَخْوَال وَالْخَالَات وَغَيْرهمْ، ثُمَّ بِالْمُصَاهَرَةِ، ثُمَّ بِالْمَوْلَى مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَل، ثُمَّ الْجَار، وَيُقَدَّم الْقَرِيب الْبَعِيد الدَّار عَلَى الْجَار، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَرِيب فِي بَلَد آخَر قُدِّمَ عَلَى الْجَار الْأَجْنَبِيّ، وَأَلْحَقُوا الزَّوْج وَالزَّوْجَة بِالْمَحَارِمِ وَاَللَّه أَعْلَم. 4622- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ وَأَبِيك لَتُنَبَّأَن» قَدْ سَبَقَ الْجَوَاب مَرَّات عَنْ مِثْل هَذَا، وَأَنَّهُ لَا تُرَاد بِهِ حَقِيقَة الْقَسَم، بَلْ هِيَ كَلِمَة تَجْرِي عَلَى اللِّسَان وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ. 4623- قَوْله: «جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنهُ فِي الْجِهَاد، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاك؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَفيهمَا فَجَاهِدْ» وَفِي رِوَايَة: «أُبَايِعك عَلَى الْهِجْرَة وَالْجِهَاد أَبْتَغِي الْأَجْر مِنْ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْك فَأَحْسِنْ صُحْبَتهمَا» هَذَا كُلّه دَلِيل لِعِظَمِ فَضِيلَة بِرّهمَا، وَأَنَّهُ آكَد مِنْ الْجِهَاد، وَفيه حُجَّة لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَجُوز الْجِهَاد إِلَّا بِإِذْنِهِمَا إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، أَوْ بِإِذْنِ الْمُسْلِم مِنْهُمَا. فَلَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ لَمْ يُشْتَرَط إِذْنهمَا عِنْد الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَشَرَطَهُ الثَّوْرِيّ. هَذَا كُلّه إِذَا لَمْ يَحْضُر الصَّفّ وَيَتَعَيَّن الْقِتَال، وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يَجُوز بِغَيْرِ إِذْن. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى الْأَمْر بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ عُقُوقهمَا حَرَام مِنْ الْكَبَائِر، وَسَبَقَ بَيَانه مَبْسُوطًا فِي كِتَاب الْإِيمَان. 4624- سبق شرحه بالباب. .باب تَقْدِيمِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى التَّطَوُّعِ بِالصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا: قَالَ الْعُلَمَاء هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ الصَّوَاب فِي حَقّه إِجَابَتهَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاة نَفْل، وَالِاسْتِمْرَار فيها تَطَوُّع لَا وَاجِب، وَإِجَابَة الْأُمّ وَبِرّهَا وَاجِب، وَعُقُوقهَا حَرَام، وَكَانَ يُمْكِنهُ أَنْ يُخَفِّف الصَّلَاة وَيُجِيبهَا ثُمَّ يَعُود لِصَلَاتِهِ، فَلَعَلَّهُ خَشِيَ أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى مُفَارَقَة صَوْمَعَته، وَالْعَوْد إِلَى الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا وَحُظُوظهَا، وَتُضْعِف عَزْمه فِيمَا نَوَاهُ وَعَاهَدَ عَلَيْهِ. 4625- قَوْلهَا: «فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيهِ الْمُومِسَات» هِيَ بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْر الثَّانِيَة أَيْ الزَّوَانِي الْبَغَايَا الْمُتَجَاهِرَات بِذَلِكَ، وَالْوَاحِدَة مُومِسَة، وَتَجْمَع عَلَى مَيَامِيس أَيْضًا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَانَ رَاعِي ضَأْن يَأْوِي إِلَى دَيْره» الدَّيْر كَنِيسَة مُنْقَطِعَة عَنْ الْعِمَارَة تَنْقَطِع فيها رُهْبَان النَّصَارَى لِتَعَبُّدِهِمْ، وَهُوَ بِمَعْنَى الصَّوْمَعَة الْمَذْكُورَة فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَهِيَ نَحْو الْمَنَارَة يَنْقَطِعُونَ فيها عَنْ الْوُصُول إِلَيْهِمْ وَالدُّخُول عَلَيْهِمْ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَجَاءُوا بِفُؤُوسِهِمْ» هُوَ مَهْمُوز مَمْدُود جَمْع فَأْس بِالْهَمْزِ، وَهِيَ هَذِهِ الْمَعْرُوفَة كَرَأْسٍ وَرُءُوس وَالْمَسَاحِي جَمْع مِسْحَاة، وَهِيَ كَالْمِجْرَفَةِ إِلَّا أَنَّهَا مِنْ حَدِيد ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيّ. 4626- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَتَكَلَّم فِي الْمَهْد إِلَّا ثَلَاثَة» فَذَكَرَهُمْ، وَلَيْسَ فيهمْ الصَّبِيّ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمَرْأَة فِي حَدِيث السَّاحِر وَالرَّاهِب، وَقِصَّة أَصْحَاب الْأُخْدُود الْمَذْكُور فِي آخِر صَحِيح مُسْلِم، وَجَوَابه أَنَّ ذَلِكَ الصَّبِيّ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَهْد، بَلْ كَانَ أَكْبَر مِنْ صَاحِب الْمَهْد، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا. قَوْله: «بَغِيّ يُتَمَثَّل بِحُسْنِهَا» أَيْ يُضْرَب بِهِ الْمَثَل لِانْفِرَادِهَا بِهِ. قَوْله: «يَا غُلَام مَنْ أَبُوك؟: قَالَ: فُلَان الرَّاعِي» قَدْ يُقَال: إِنَّ الزَّانِي لَا يَلْحَقَهُ الْوَلَد، وَجَوَابه مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعهمْ يَلْحَقهُ، وَالثَّانِي الْمُرَاد مِنْ مَاء مَنْ أَنْتَ؟ وَسَمَّاهُ أَبًا مَجَازًا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرَّ رَجُل عَلَى دَابَّة فَارِهَة وَشَارَة حَسَنَة» (الْفَارِهَة) بِالْفَاءِ النَّشِيطَة الْحَادَّة الْقَوِيَّة، وَقَدْ فَرُهْت بِضَمِّ الرَّاء فَرَاهَة وَفَرَاهِيَة، وَالشَّارَة الْهَيْئَة وَاللِّبَاس. قَوْله: «فَجَعَلَ يَمَصّهَا» بِفَتْحِ الْمِيم عَلَى اللُّغَة الْمَشْهُورَة، وَحُكِيَ ضَمّهَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيث فَقَالَتْ: حَلْقَى» مَعْنَى تَرَاجَعَا الْحَدِيث أَقْبَلَتْ عَلَى الرَّضِيع تُحَدِّثهُ، وَكَانَتْ أَوَّلًا لَا تَرَاهُ أَهْلًا لِلْكَلَامِ، فَلَمَّا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْكَلَام عَلِمَتْ أَنَّهُ أَهْل لَهُ، فَسَأَلْته، وَرَاجَعْته. وَسَبَقَ بَيَان: «حَلْقَى» فِي كِتَاب الْحَجّ. قَوْله فِي الْجَارِيَة الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى السَّرِقَة وَلَمْ تَسْرِق: «اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِثْلهَا» أَيْ اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي سَالِمًا مِنْ الْمَعَاصِي كَمَا هِيَ سَالِمَة، وَلَيْسَ الْمُرَاد مِثْلهَا فِي النِّسْبَة إِلَى بَاطِل تَكُون مِنْهُ بَرِيًّا. وَفِي حَدِيث جُرَيْجٍ هَذَا فَوَائِد كَثِيرَة. مِنْهَا عِظَم بِرّ الْوَالِدَيْنِ، وَتَأَكُّد حَقّ الْأُمّ، وَأَنَّ دُعَاءَهَا مُجَاب، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ الْأُمُور بُدِئَ بِأَهَمِّهَا، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَجْعَل لِأَوْلِيَائِهِ مَخَارِج عِنْد اِبْتِلَائِهِمْ بِالشَّدَائِدِ غَالِبًا. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّه يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا} وَقَدْ يَجْرِي عَلَيْهِمْ الشَّدَائِد بَعْض الْأَوْقَات زِيَادَة فِي أَحْوَالهمْ، وَتَهْذِيبًا لَهُمْ، فَيَكُون لُطْفًا. وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب الْوُضُوء لِلصَّلَاةِ عِنْد الدُّعَاء بِالْمُهِمَّاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْوُضُوء كَانَ مَعْرُوفًا فِي شَرْع مَنْ قَبْلنَا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيث فِي كِتَاب الْبُخَارِيّ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ زَعَمَ اِخْتِصَاصه بِهَذِهِ الْأُمَّة. وَمِنْهَا إِثْبَات كَرَامَات الْأَوْلِيَاء، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. وَفيه أَنَّ كَرَامَات الْأَوْلِيَاء قَدْ تَقَع بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبهمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَقَع بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبهمْ. وَفيه أَنَّ الْكَرَامَات قَدْ تَكُون بِخَوَارِق الْعَادَات عَلَى جَمِيع أَنْوَاعهَا، وَمَنَعَهُ بَعْضهمْ، وَادَّعَى أَنَّهَا تَخْتَصّ بِمِثْلِ إِجَابَة دُعَاء وَنَحْوه، وَهَذَا غَلَط مِنْ قَائِله، وَإِنْكَار لِلْحِسِّ، بَلْ الصَّوَاب جَرَيَانهَا بِقَلْبِ الْأَعْيَان وَإِحْضَار الشَّيْء مِنْ الْعَدَم وَنَحْوه. .باب رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا عِنْدَ الْكِبَرِ فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ: 4628- سبق شرحه بالباب. .باب فَضْلِ صِلَةِ أَصْدِقَاءِ الأَبِ وَالأُمِّ وَنَحْوِهِمَا: 4630- سبق شرحه بالباب. 4631- قَوْله: «كَانَ لَهُ حِمَار يَتَرَوَّح عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوب الرَّاحِلَة» مَعْنَاهُ كَانَ يَسْتَصْحِب حِمَارًا لِيَسْتَرِيحَ عَلَيْهِ إِذَا ضَجِرَ مِنْ رُكُوب الْبَعِير. وَاَللَّه أَعْلَم. .باب تَفْسِيرِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ: قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاض: الْمَشْهُور أَنَّهُ كِلَابِيّ، وَلَعَلَّهُ حَلِيف لِلْأَنْصَارِ. قَالَا: وَهُوَ النَّوَّاس بْن سَمْعَان بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن قُرْط بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن أَبِي كِلَاب، كَذَا نَسَبه الْعَلَائِيّ عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى بْن مَعِين. و(سَمْعَان) بِفَتْحِ السِّين وَكَسْرهَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِرّ حُسْن الْخُلُق، وَالْإِثْم مَا حَاكَ فِي صَدْرك، وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِع عَلَيْهِ النَّاس» قَالَ الْعُلَمَاء: الْبِرّ يَكُون بِمَعْنَى الصِّلَة، وَبِمَعْنَى اللُّطْف وَالْمَبَرَّة وَحُسْن الصُّحْبَة وَالْعِشْرَة، وَبِمَعْنَى الطَّاعَة، وَهَذِهِ الْأُمُور هِيَ مَجَامِع الْخُلُق. وَمَعْنَى: «حَاكَ فِي صَدْرك» أَيْ تَحَرَّكَ فيه، وَتَرَدَّدَ، وَلَمْ يَنْشَرِح لَهُ الصَّدْر، وَحَصَلَ فِي الْقَلْب مِنْهُ الشَّكّ، وَخَوْف كَوْنه ذَنْبًا. 4633- قَوْله: «مَا مَنَعَنِي مِنْ الْهِجْرَة إِلَّا الْمَسْأَلَة كَانَ أَحَدنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْء» وَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ كَالزَّائِرِ مِنْ غَيْر نَقْله إِلَيْهَا مِنْ وَطَنه لِاسْتِيطَانِهَا، وَمَا مَنَعَهُ مِنْ الْهِجْرَة، وَهِيَ الِانْتِقَال مِنْ الْوَطَن وَاسْتِيطَان الْمَدِينَة إِلَّا الرَّغْبَة فِي سُؤَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُور الدِّين، فَإِنَّهُ كَانَ سَمِحَ بِذَلِكَ لِلطَّارِئِينَ دُون الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَفْرَحُونَ بِسُؤَالِ الْغُرَبَاء الطَّارِئِينَ مِنْ الْأَعْرَاب وَغَيْرهمْ، لِأَنَّهُمْ يُحْتَمَلُونَ فِي السُّؤَال، وَيَعْذِرُونَ، وَيَسْتَفِيد الْمُهَاجِرُونَ. الْجَوَاب كَمَا قَالَ أَنَس فِي الْحَدِيث الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي كِتَاب الْإِيمَان: وَكَانَ عَجَبًا أَنْ يَجِيء الرَّجُل الْعَاقِل مِنْ أَهْل الْبَادِيَة فَيَسْأَلهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
|